الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية والخبر العمري كلامًا ارتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله: أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الآية من قبيل أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن بيان الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه.وبيانه أنسبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم.أحدهما: تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي.وثانيهما: المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم السلام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقًا آخر أزليًا فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي اه وهو حسن كما قالوا، لكن ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم انقطاعه بعده هو خاص بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلى وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في دفع ذلك فقال: المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثاتبة وليست تلك الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل هي في ذواتهاغير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤنات واعتبارات للذات الاحدى وجوابهم بقولهم: بلى إنماهو بألسنة استعداداتهم الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى.وهو مبني على الفرق بين البثوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن يقول به والله لا يستحي من الحق، ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وهو أن المراد بالذرية المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية والأعيان الثابتة وأن المراد باستخراجها هو تجلي الذات الإحدي وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم باعتباره أن تلك الصور إذا وجدت ففي الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاوملة حالية استعدادية أزلية لا قالية لا يزالية حادثة وهذا هو المراد بما نقل الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في الحقائق عن بنان حيث قال: أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم فأجابهم سراعًا وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الإنسية ثم أخرجهم بمشيئته خلقًا وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172] إلخ فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم إذا كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجودًا ثم أنشد السلمي لبعضهم:
انتهى.ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار، وما نقل عن بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة، وجعل لهم فسوحًا في غوامض غيب الملكوت وبعده ما ذكر، وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى أبدع المبدعات وتجلى بلسان الأحدية في الربوبية فقال: ألست بربكم؟ والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا: بلى.فكان كمثل الصدا فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث خيال منصوب وهذا الإشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا بما فيهم من الحظ الطبيعي وبما فيهم من قبول الاقتدار الإلهي وما يعلمه إلا قليل؛ وأنت تعلم أن محققي المفسرين اعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به، ومن ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والبيهقي وابن عساكر وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: جمعهم جميعًا فجعلهم أرواحًا في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئًا إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا رب لولا سويت بين عبادك قال: إني أحببت أن أشكر.وبهذا يندفع ما يقال: إن إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُونَ الله} [الزخرف: 87] والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي المشار إليه في الأخبار ويقولون: إنها من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب، قالوا أولًا: إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا كليًا فحيث نسي كذلك دل على عدم وقوعها، وبنحو هذا الدليل بطل التناسخ.وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن لا يخلقه لحكمة علمها، ودليل بطلان التناسخ ليس منحصرًا بما ذكر، فقد استدلوا أيضًا على بطلانه بلزوم أن يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن يكون عدد الهالكين مساويًا لعدد الكائنين والطوفات العامة تأبى هذا التساوي، على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين التناسخ وبين ما نحن فيه، وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين امتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها، وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه.وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا لبعد الزمان.واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيرًا من أحوال الدينا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال: إن ذلك خصوصية الدار، وقالوا ثانيًا: إن تلك الذرية المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لابد أن يكون لكل واحد منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد، وأجيب بأنه مبني على كون الحياة مشروطة بالبنية المخصوصة كما هو مذهب الخصوم، والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في الكلام، فجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جوهر فرد، وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر، وكون المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم، وإن كان الأخذ في السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة، وإن كان إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع، ولا مانع إذا كان في الأرض أن يكون اجتماع الذر متراكمًا بينها وبين السماء وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته، وإن اعتبر أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فه، وقالوا ثالثًا: إنه لا فائدة ف أخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالًا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر.وأجيب: بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة أو إقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية، وكونهم إذ ذاك أدون حالًا من الأطفال في حز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالًا من الأطفال، وقالوا رابعًا: إنه سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وقال جل وعلا: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 5، 6] وكون أولئك الذر أناسى ينافي كون الإنسان مخلوقًا مما ذكر.وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا يعجزه شيء، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة، ولا يلتفت إلى قول من قال: إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الإلهية.وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها، وقال: من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقًا لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة، وفي جامع الأصول عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكىء في أريكته فيقول: ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه» الحديث، ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء.ومن ذلك ما أخرجه الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال: حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي كرم الله تعالى وجهه: يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال: بم؟ قال: بكتاب الله عز وجل قال: وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال: قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} الآية إلى قوله سبحانه: {بلى} [الأعراف: 172] وذلك أن الله عز شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال: اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة وأني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتي يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع.فقال عمر رضي الله تعالى عنه أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.قيل: ومن هنا يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: «الحجر يمين الله تعالى في أرضه» والكلام في ذلك شهر، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا: بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلًا ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية ومنهم من عكس، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كذلك، والثاني هم الذين يعيشون كفارًا ويموتون كذلك.والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارًا، والرابع هم الذين يعيشون كفارًا ويموتون مؤمنين انتهى.وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا عول عليه، ومثله القول بأن بعضًا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل: ألست بربكم؟ فعنوه بالجواب وأولئك هم الأشقياء، وبعضًا تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء، وهذا عندي من البطلان بمكان؛ والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهوا الجواب لرب الأرباب.نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرهًا واستدلوا له ببعض الآثار السالفة، وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار، ومن قال: إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختيارًا فيدخلون الجنة بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة، ومثل هذا واقع في الآيات كثيرًا. اهـ.
|